الثاني؛ التربية: إذا نشأ الطفل بين أهل أشحَّاء، ولم يكن في فطرته ما يقاوم سلطان التربية على نفسه أخذ أخذهم في الحرص، وتخلَّق فيه بأخلاقهم كما يتخلق بها في العقائد والعادات من حيث لا يفكر في استحسان أو استهجان، كأنما هي عدوى الأمراض التي تسري إلى الإنسان من حيث لا يدري بها، ولا يشعر بسريانها.
ويُحْكَى أن رجلاً دخل منزلاً يُعْرَف أهلُه بالشح والحرص، فرأى طفلاً صغيراً في يده ليمونة؛ فطلب إليه أن يعطيه إياها، فأجابه الطفل: "إن يدك لا تسعها!".
الثالث؛ سوء الظن بالله: ذلك أن المتدين إذا أخذت عقيدة القضاء والقدر من نفسه مأخذها رسخ في قلبه الإيمانُ بأن لله سبحانه وتعالى عيناً ساهرة على عباده الضعفاء؛ فهو أرحم من أن يغفل شأنهم، ويكلهم إلى أنفسهم، ويسلمهم لصروف الليالي وعاديات الأيام؛ فلا يَلِجُّ به الحرصُ على الجمع، ولا يزعجه الخوف من البذل.
وعلى العكس منه ضعيف الإيمان، ضعيف الثقة بواهب الأرزاق، ومقسم الحظوظ والجدود؛ فهو لسوء ظنه لا يزال الخوف من الفقر نصبَ عينيه حتى يصير البخل ملكةً راسخة فيه.
الرابع؛ النكبات: كثيراً ما تحلُّ بالإنسان نكباتٌ تصهر قلبه، وتزعج غريزته من مستقرها، ومن ذلك النكباتُ التي يكون مرجعُها قلةَ المال، كأنْ يقع الرجل في خصومة يرى أنه لولا ضيقُ ذات يده لما وقع في مثلها، فكلما تمثلت له نكبةٌ لجَّ به الحرصُ، وأغرق في المنع، حتى يصير ذلك غريزة فيه، وخلقاً ثابتاً له.
ومن ذلك جديد النعمة الذي ذاق مرارة الفقر حِقْبَةً من الزمان، وكابد منه ما كابد من الآلام والأوجاع؛ فإنه -مهما حسنت حاله، وانتعشت نفسه، وفاضت خزائنه بالفضة والذهب- لا تذهب من فمه تلك المرارة، ولا تُضَيِّع ذاكرتُه آلامها، فلا يزال يتملك قلبه وسواس مقلق يُخَيِّل ما لا يُتَخَيَّل، ويريه ما لا يرى، كمن تمثل له خيال الشيطان مرة في أبشع صورة، وأفظع شكل؛ فهاله منظره، وذهب الخوف منه برشده؛ فلا يزال يراه في كل مكان وزمان، وفي حالتي الأمن والخوف، والوحشة والأنس.
الخامس؛ اللؤم: فإن النفس إذا خبثت طينتُها، ولَؤُمَ طبعُها كان من أخص صفاتها الحقدُ على الوجود بأجمعه، وبغضُ الخير للناس قاطبة، فكيف يمنحهم من ذات يده ما يزيده ألماً على ألم، وحسرة فوق حسرة، وهو لو استطاع أن يمنع عنهم سارية السماء، ويعترض دونهم نابتة الأرض لفعل؟
السادس؛ سقوط الهمة: إذا نشأ الإنسان عاليَ الهمة طموحاً إلى المعالي، محباً للذكر الحسن، والثناء الجميل، سهلٌ عليه أن يبذل في سبيل ذلك كل ما يستطيع بذله من ذات يده أو ذات نفسه.
وحب المجد أسال الذهب من خزائن الأغنياء، وصيَّر نفوس الشجعان نهباً مقسماً بين شفرات السيوف، وأسنة الرماح؛ طلباً لسعادة الحياة بالذكر، وسعادة الممات بالخلود؛ فمن لساقط الهمة ضعيف النفس بدافع يدفعه إلى بذل المال على مكانته الراسخة في قلبه، وامتزاج حبه بلحمه ودمه؟ أيدفعه حبُّ الثناء، وهو لا يشعر بلذته؟ أو خوف المذمة، وهو لا يتألّم منها، ولا يُحس بمرارتها؟ أم سعادة الحياة وسعادة الممات؟ وهو لا يفهم للسعادة معنى غير ما فهمه الزبرقان بن بدر حينما قنع على لسان الحطيئة من المكارم بلقمة يمضغها، وحُلَّةٍ يلبسها .
السابع؛ فساد المجتمع الإنساني: ذلك أن كثيراً من الناس قد بلغ بهم حبُّ المال، والتعبدُ له أن صاروا يعظمون صاحبه لا لفائدة يرجونها، أو خيرٍ يطمعون فيه، بل لأنه ذو مال، وذو المال في نظرهم أحق الناس بالمحبة والإكرام والإعظام، وإن لم يحصلوا منه على طائل؛ فلو أنهم عبدوا الله سبحانه وتعالى بهذا النوع من العبادة لأصبحوا من عِبَاده المقربين، فمن ذا الذي لا يحب من البخلاء أن ينال هذه المنزلة في نفوس هؤلاء المتملقين وليس بينه وبينها إلا الحرص على ما في يده، وهو عمل يتكلفه، ولا يتعمَّل له، بل هو أشهى الأشياء إليه، وأكثرها ملائمة لفطرته؛ ليزداد شرفاً وعزاً، كلما ازداد ثراءً ووفراً.
ومن هنا قال أحد البخلاء لأولاده: "يا بني لأنْ يعلم الناس أن عند أحدكم مائة ألف درهم أعظم له في أعينهما من أن يقسمها فيهم".
وقال رجل آخر: "يا بخيل"؛ فقال له: "لا أحرمني الله بركة هذا الاسم؛ فإني لا أكون بخيلاً إلا إذا كنت غنياً فَسمِّ لي المال، ولقبني بما تشاء".
هذه هي أهم الأسباب التي تألفت منها رذيلة البخل؛ فإن أغفلنا النظر إليها، وسَلَّمْنا للسائل صحة سؤاله عما يستفيده البخيل من بخله، حتى على نفسه، وفرضنا البخيل مختاراً فيما يفعل غير مساق إلى هذا المورد الوبيل بسائق الغريزة الفاسدة، كان منال النجم أقرب من تَطَبُّقِ حاله هذه على قاعدة من قواعد العقل؛ لأنَّ الله تعالى خلق الإنسان، وَرَكَّبَ فيه رغباتِ الشهوات مختلفة، بعضها نفسي، والآخر جسدي؛ فهو لا يزال يتطلبها ما لم يعجز عنها.