أعادت الأحداث الدامية الأخيرة التي تعرض لها المسلمون في إقليم أراكان
المسلم في بورما مآسي الاضطهاد والقتل والتشريد التي كابدها أبناء ذلك
الإقليم المسلم منذ 60 عامًا على يد الجماعة البوذية الدينية المتطرفة
(الماغ) بدعم ومباركة من الأنظمة البوذية الدكتاتورية في بورما، حيث أذاقوا
المسلمين الويلات وأبادوا أبنائهم وهجروهم قسرًا من أرضهم وديارهم وسط
غيابٍ تامّ للإعلام أن ذاك إلا في القليل النادر.
فمنذ حوالي أسبوع يعيش مسلمو ولاية آراكان الواقعة في غرب بورما أوضاعا
مأساوية، بعدما تحولت المواجهات التي يشهدها الإقليم إلى حرب شاملة ضد
المسلمين في بورما، فقبل عدة أيام قتل عشرة من دعاة بورما المسلمين لدى
عودتهم من العمرة على يد مجموعات بوذية، قامت بضربهم حتى الموت وذلك بعدما
اتهمتهم الغوغاء ظلما بالوقوف وراء مقتل شابة بوذية.
ومنذ ذلك الحين تجوب مجموعات مسلحة بالسكاكين وعصي الخيزران المسنونة
العديد من مناطق وبلدات ولاية أراكان، تقتل كل من يواجهها من المسلمين
وتحرق وتدمر مئات المنازل، وخاصة في منطقة (مونغاناو) في شمال الولاية،
إضافة لمدينة (سيتوي) عاصمة ولاية أراكان.
وتعتبر ولاية أراكان (والتي هي عبارة عن شريط ترابي ضيق يقع على خليج
البنغال) همزة الوصل بين آسيا المسلمة والهندوسية وآسيا البوذية، حيث يكاد
يكون من شبه المستحيل التعايش بين أغلبية بوذية (الراخين) وأقلية مسلمة
مضطهدة (روهينج ياس).
كما تعتبر الأقلية المسلمة في بورما بحسب الأمم المتحدة أكثر الأقليات في
العالم اضطهادا ومعاناة وتعرضا للظلم الممنهج من الأنظمة المتعاقبة في
بورما.
جذور المأساة:
يبلغ عدد سكان بورما أكثر من 50 مليون نسمة، منهم 15% مسلمون، حيث يتركز
نصفُهم في إقليم أراكان ـ ذي الأغلبية المسلمة- وقد وصل الإسلام إلى أراكان
في القرن السابع الميلادي، وأصبحت أراكان دولة مسلمة مستقلة، حتى قام
باحتلالها الملك البوذي البورمي (بوداباي)، في عام 1784م وضم الإقليم إلى
بورما خوفًا من انتشار الإسلام في المنطقة، وعاث في الأرض فسادًا فدمر
كثيرًا من الآثار الإسلامية من مساجد ومدارس، وقتل العلماء والدعاة.
ومنذ تلك الحقبة، والمسلمون يتعرضون لكافة أنواع التضييق التنكيل
والإبادة، ففي عام 1942م تعرض المسلمون لمذبحة وحشية كبرى من قِبَل
البوذيين الماغ بعد حصولهم على الأسلحة والإمداد من قِبَل البوذيين
البورمان والمستعمرين وغيرهم، راح ضحيتها أكثر من مائة ألف مسلم، أغلبهم من
النساء والشيوخ والأطفال، وشردت مئات الآلاف خارج الوطن، ومن شدة قسوتها
وفظاعتها لا يزال الناس -وخاصة كبار السن- يذكرون مآسيها حتى الآن.
كما تعرض المسلمون للطرد الجماعي المتكرر خارج الوطن بين أعوام 1962م
و1991م حيث طرد قرابة المليون ونصف المليون مسلم إلى بنغلادش في أوضاع
قاسية جدًا.
ولا يزال مسلمو أراكان يتعرضون في كل حين لكل أنواع الظلم والاضطهاد من
القتل والتهجير والتشريد والتضييق الاقتصادي والثقافي ومصادرة أراضيهم، بل
مصادرة مواطنتهم بزعم مشابهتهم للبنغاليين في الدين واللغة والشكل وذلك
لإذلالهم وإبقائهم ضعفها فقراء وإجبارهم على الرحيل من ديارهم.
بداية المأساة الجديدة:
مع حلول الديمقراطية في ميانمار (بورما) حصلت ولاية أراكان ذات الأغلبية
الماغيّة على 36 مقعدًا في البرلمان، أعطي منها 43 مقعدًا للبوذيين الماغين
و3 مقاعد فقط للمسلمين، ولكن وبالرغم هذه المشاركة من المسلمين الروهنجيين
لم تعترف الحكومة الديمقراطية التي ما زالت في قبضة العسكريين الفاشيين
بالعرقية الروهنجيّة إلى الآن رغم المطالبات الدولية المستمرّة.
وقبل انفجار الأزمة في 18/7/1433هـ الموافق 8/6/2012م بأيام، أعلنت
الحكومة الميانمارية البورمية بأنّها ستمنح بطاقة المواطنة للروهنجيين في
أراكان فكان هذا الإعلان بالنسبة للماغين بمثابة صفعة على وجوههم، فهم
يدركون تمامًا معنى ذلك وتأثيره على نتائج التصويت -في ظلّ الحكومة
الجمهورية الوليدة- ويعرفون أن هذا القرار من شأنه أن يؤثر في انتشار
الإسلام في أراكان، حيث أنّ الماغين يحلمون بأن تكون أراكان منطقة خاصة بهم
لا يسكنها غيرهم.
بدأ الماغيون بعد ذلك يخططون لإحداث أي فوضى في صفوف المسلمين، ليكون ذلك
مبرّرًا لهم لتغيير موقف الحكومة تجاه المسلمين الروهنجيين فيصوروهم على
أنهم إرهابيون ودخلاء، ويتوقف قرار الاعتراف بهم أو يتم تأجيله، وأيضًا
لخلق فرصة لإبادة الشعب الروهنجي المسلم مع غياب الإعلام الخارجي كلّيًّا،
وسيطرة الماغين على مقاليد الأمور في ولاية أراكان.
البداية المفبركة:
عمد الماغيون في بلدة تاس ونجوك البوذيّة التي يندر وجود المسلمين فيها،
والواقعة في الطريق المؤدّي إلى العاصمة رانغون برصد تحركات المسلمين،
فاتجهت -قدرًا- حافلة تقلّ مجموعة من العلماء والدعاة المسلمين منهم من
عاصمة بورما (رانغون) ومن عاصمة ولاية أراكان (إكياب-سيتوي) وحين وصلوا إلى
البلدة المذكورة هاجمهم مجموعة من الماغيين البوذيين وأمسكوا بهم، فوقعت
المأساة والمذبحة البشعة فاجتمع على ضربهم وقتلهم قرابة الـ 466 من
الماغيين الحاقدين في صورة تنعدم عندها كلّ معاني الإنسانيّة.
والمتأمل لصور شهداء المذبحة يدرك تمامًا أن هؤلاء الدعاة رحمهم الله تمّ
ربط أيديهم وأرجلهم، ثمّ انهال الجميع بضربهم ضربًا مبرحًا بالعصي على
وجوههم ورؤوسهم. فلا ترى إلاّ وجوهًا محتقنة بالدماء والنزيف الداخلي
للدماغ والوجه واضح جدًّا، وقد فقئت أعينهم وكسرت جماجمهم وخرجت أدمغتهم..
وسحبت ألسنتهم فلا يعلم إلاّ الله كم عانوا من الألم قبل أن تخرج أرواحهم..
التبرير الساذج للمذبحة:
وحتّى يثير الماغيون الفتنة، ويخلقوا موقفًا للتبرير جريمتهم ادّعوا أنّهم
فعلوا ذلك انتقامًا لمقتل فتاة بوذيّة زعموا أن أحد المسلمين اغتصابها
وقتلها، مع العلم بأنّ حادثة الفتاة -إن صدقوا فيها- فقد حصلت في بلدة يندر
فيها وجود المسلمون، كما أن هؤلاء الدعاة ليسوا من تلك البلدة وإنّما
كانوا مارّين بها إضافة إلى أنهم مواطنون أصليون من العاصمة رانغون وليسوا
من مقاطعات أراكان ويتكلمون لغة الماغ بطلاقة وهم من كبار السنّ وقد علاهم
الشيب وغطّت وجوههم اللحى.
موقف الحكومة:
وبالطبع كان موقف الحكومة مخجلًا ومتواطئًا مع البوذيين ضدّ المسلمين، حيث
قامت بالقبض على 4 من المسلمين بدعوى الاشتباه بهم في قضية الفتاة، وتركوا
الـ466 الذين شاركوا في قتل هؤلاء الأبرياء، مما يوضح بجلاء أنّ القضيّة
ليست قضيّة فتاة، إنما هي دعوى ترويجيّة لإحداث الفوضى وإبادة المسلمين
بمباركة من الحكومة وإعادة ما حصل قبل ستة عقود.
تطورات القضيّة:
وفي يوم الجمعة 19/7/1433هـ الموافق 3/6/2012م يوم اندلاع الثورة أحاط
الجيش والشرطة البوذيّة بشوارع المسلمين تحسّبًا لأيّ عملية مظاهرات وشغب
في أراكان وبالتحديد في (مانغدو) ومنعوا المصلين من الخروج دفعةً واحدة،
وأثناء خروجهم قاموا الرهبان البوذيين الماغ برمي الحجارة على المسلمين حتى
أصيب عدد منهم، فثار المسلمون وقاموا بردة فعل، وقد احتقنت النفوس على قتل
الدعاة العشرة وضياع حقوقهم طيلة العقود الماضية، فقاموا بأعمال شغب..
وهذه الفرصة التي كان ينتظرها (الماغ) ليردّوا عليها بإبادة شعب طال
تخطيطهم لها، وبعدها تدخّل الجيش والتزم المسلمون بالتهدئة ورجعوا
لمنازلهم، وتمّ فرض حظر التجوّل على الطرفين فتمّت محاصرة أحياء الروهنجيين
المسلمين حصارًا محكمًا من قبل الشرطة البوذية الماغيّة، وفي المقابل ترك
الحبل على الغارب للماغ البوذيين يعيثون في الأرض الفساد، ويزحفون على قرى
ومنازل المسلمين بالسواطير والسيوف والسكاكين، فبدأت حملة الإبادة المنظمة
ضدّ المسلمين والتي شارك فيها حتّى كبار السن والنساء..
أمّا المسلمون العزّل فكلّ ما كان يحملونه عند ثورتهم بعد الجمعة مجرّد
عصيّ وأخشاب لدى بعضهم، وهكذا بدأ القتل في المسلمين وحرق أحياء وقرى كاملة
للمسلمين بمرأى من الشرطة الماغية البوذية وأمام صمت الحكومة التي اكتفت
ببعض النداءات لتهدئة الأوضاع.
تهجير المسلمين من أكياب/ سيتوي:
ومما يدل أيضًا على أن المسألة هي مسألة تطهير عرقيّ وإبادة جماعيّة
للروهنجيين المسلمين، ما قام به البوذيون الماغيون حيث استغلوا فرض حظر
التجول في المناطق ذات الأغلبية المسلمة وضمنوا عدم استطاعة زحفهم تجاه
عاصمة أراكان إكياب -وهي مدينة بعيدة عن تجمع المسلمين مثل: مانغدو
وراثيدونغ وغيرها- فقاموا بحرق أحيائهم بالكامل، وبدأ النزوح الجماعي
للمسلمين من إكياب ومانغدو بعد أن احترقت منازلهم وصاروا يهيمون على وجوههم
في كلّ مكان، بأجساد عارية ليس عليها إلا خرق بالية، وبدأ تهجيرهم وطردهم
والدفع بهم في عرض البحر على سفن متهالكة بلا طعام ولا شراب..
وهكذا بدأت رحلة المجهول على قوارب الموت مسلمّين أمرهم إلى الله وقد علت
أصواتهم بالاستغاثة والإلتجاء من الله، وبحت أصواتهم وأصوات أطفالهم
ونسائهم بالبكاء، وقد انتهى مصيرهم بالوصول إلى الدول المتاخمة وهم في حالة
بين الحياة والموت والكثير منهم قد فارق الحياة.
وعلى الرغم من مناقشة قضية الأراكانيين الروهنجيين من قبل الأمم المتحدة
ومنظمة آسيان، ومنظمة المؤتمرالإسلامي منذ عقدين؛ إلا أن شيءً لم يتغيّر،
بل ازداد سوءً. ففي ظل سكوت العالم اليوم عن هذه القضية كما سكت بالأمس فإن
البوذيين لن يتوانوا عن إعادة مسلسل جرائهم من جديد، الذي بدؤوه قبل 60
عامًا حين أيقنوا أن العالم في سبات عميق تجاه ما يقترفونه في حق المسلمين
في إقليم أراكان، من أبشع صور القتل والتعذيب والتهجير وحرق للمنازل
والأحياء على من فيها.