لا يدرك الكثيرون خطورة الانقلاب العسكري الذي حدث في مصر بتخطيط صهيوأمريكي، ودعم عربي خليجي تحديدا، على ثقافة الأمة وأمنها، لا سيما وأن أعداء كُثر هللوا للانقلاب واعتبروه نهاية للإسلام ذاته، وليس الإخوان المسلمون فحسب. فقد خرج الأقباط عن بكرة أبيهم لتهيئة الأجواء للانقلاب بتحريض بابا الأقباط، في حين أن الكنيسة القبطية كانت مع حسني مبارك في ثورة 25 يناير. ومن كان في صف مبارك من الفنانين والفلول كانوا أول من حضر في ميدان التحرير يوم 30 يونيو. كما اختلفت المعاملة لأنصار مرسي عن المعاملة التي حظي بها أنصار مبارك.
وقد كشفت دراسة ميدانية لمنظمة (تكامل مصر) بعد الانقلاب أن 26 في المائة فقط من المصريين يؤيدون عزل الرئيس مرسي، في حين أن معارضي عزله بلغوا 65 في المائة. و11 في المائة فضلوا الصمت، مما يكشف حجم المؤامرة. وكان المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي، قد أكد في محاضرة سابقة بالجامعة الأمركية بالقاهرة أن أمريكا تخشى قيام ديمقراطية حقيقية تعكس الرأي العام للشعوب في منطقة الربيع العربي خاصة مع تداعي هيمنتها على العالم. وأن (الخطر في الشرق الأوسط يتمثل في احتمال أن تتحرك المنطقة صوب استقلالية لها معنى، وهذا يمثل خطرا على الولايات المتحدة). فالغرب الذي دعم الديكتاتورية دهرا وأسس لها ودعمها لا يمكنه أن يتحول إلى ديمقراطي في سياساته الخارجية.
دورة استعمارية جديدة: كان الانقلاب على السلطان عبد الحميد، في تركيا بداية جديدة لحقبة جديدة شهدتها الأمة ودفعت ثمنها من دينها وكرامتها وثروتها وعزتها ومجدها، وكذلك يراد من الانقلاب العسكري على الرئيس محمد مرسي، مرحلة هيمنة جديدة لاستكمال المشروع الصهيوني مراحله دون وجود أي مشروع في المقابل. وقد عادت عقارب الساعة إلى عشرينات القرن الماضي، لتعيد مشاهد خلع السلطان عبد الحميد الذي هلل لسقوطه اليهود، بعد أن رفض بيع فلسطين، فتم خلعه بثورة شعبية معدة سلفا، كالحراك المدبر الذي سبق انقلاب عبد الفتاح السيسي، ضد الرئيس المنتخب محمد مرسي. وكانت نهاية السلطان عبد الحميد نهاية لعزة الإسلام في تركيا فأُهين العلماء وأُهينت اللغة العربية واستُبدِلت الحروف العربية التي كانت تكتب بها اللغة التركية بالحروف اللاتينية، وأُلغي الأذان باللغة العربية وأُغلقت المساجد، وفتح الباب مشرعا لاحتلال فلسطين، وتتالي النكبات على الأمة. وانهالت المساعدات على تركيا وأضاعت أجيال وأجيال دينها في تركيا وغيرها. وعلى نفس المنوال نسج الرئيس التونسي الأسبق حبيب بورقيبة، ونشاهد إرهاصاته حاليا في مصر، بعد إغلاق 17 قناة إسلامية، وسجن علماء فضلاء ونشطاء سياسيين ذنبهم الوحيد خلفيتهم الإسلامية.
وما معنى تقديم دول الخليج 11 مليار مليار لمصر بعد الانقلاب مباشرة مع الغاز والنفط؟! ما معنى الآن ولماذا ليس في عهد الرئيس الشرعي المنتخب محمد مرسي؟! هل معنى ذلك أن ليل العسكر في مصر سيطول؟ وهل يعني ذلك كما يقول البعض أن النظام السابق يعود للحكم؟ وهل تورطت جهات دولية وإقليمية كما هو واضح في ما جرى من جريمة تاريخية نكراء؟ حيث أن كل ما يهم بعض أنظمة المنطقة هو السلطة وحمايتها بمحيط استبدادي صهيوني الهوى معادي للأمة وأشواقها في الوحدة والحرية مثلها.
إن ما حصل في مصر لا يقف عند حدود مصر، وليس عودة لعهود الاستبداد والاستعمار غير المباشر فحسب؛ بل هو عودة للاستعمار المباشر، وتقسيم الأوطان مجددا؛ هو محاولة لتحقيق حلم تقسيم مصر، وتقسيم ليبيا، ونهاية الأمل في عودة فلسطين، وتقسيم العراق، بل إحداث تقسيم جديد في الخليج وخاصة السعودية، وإن غدا لناظره لقريب.
لقد برر البعض الانقلاب بمحاولات الإخوان أخونة الدولة كما يزعمون وهي كذبة كبرى، فالدولة مؤسسات، وقد شاهدنا جميع المؤسسات في الدولة تتآمر على الإخوان، حتى مصالح الماء والكهرباء والنفط، التي عادت تعمل بشكل طبيعي يوم 30 يونيو، فضلا عن مصالح الجيش والأمن والإعلام أهم المؤسسات في الدولة؛ فأين أخونة الدولة؟ ما جرى في مصر هو محاولة للعودة لزمن أبو زعبل، والسجون وعنابر المعسكرات الجماعية، وهذا ما فهمته الجماهير من خلال الإجراءات العسكرية، وبدا للجميع أن الموت في الميادين أفضل وأشرف من الموت في الزنازين.
ما جرى في مصر ليس ثورة، بل انقلاب مهد له بشكل خبيث وشاركت فيه أحزاب ومنظمات اكتشفت حجمها الحقيقي من خلال الانتخابات فكفرت بها وعادت لأحضان العسكر بترتيب صهيوأمريكي خليجي. وبالتالي فإن الجريمة دولية وإقليمية ومحلية مثلها الجيش والأحزاب والإعلام.
الجيش (الإعلامي) للثورة المضادة تم تكريمه مؤخرا في دولة الإمارات وبشكل جماعي، فهل يوجد إعلاميين منحازين وبشكل مفضوح ويتنافى مع حرية الإعلام بهذا الشكل؟! لقد فضح (البروباغنديست) أنفسهم، بكونهم إعلاميين موجهين!!! وهؤلاء من ينقلون للشعب ما يجري في بلدهم، وجهة نظر واحدة، مسطرة إعلامية واحدة. فلول الإعلام أشد خطرا من فلول الجيش والأمن في مصر المحروسة.. المؤتمر الصحافي للجيش المصري كان موجها، ووزعت الأسئلة بشكل موجه وهي أمور معروفة في إعلام الاستبداد العسكري في العالم. لقد برر الإعلام الرسمي الانقلاب وبرر المجازر التي يرتكبها السيسي في مصر. السيسي الذي خرج لحماية الجماهير فقتل نحو 150 وجرح أكثر من ألف!! ماذا لوخرج لقتلهم فعلا، وما معنى حماية طرف وقتل طرف، ما معنى مياه غازية وعصائر في التحرير ورصاص حي في رابعة العدوية؟!!
الناطق الرسمي باسم الجيش المصري يقول مصر لن يحكمها فصيل واحد؟ إذن تعالَ نحدث مفهوما جديدا للديمقراطية ونكرسه وهو مفهوم الديمقراطية التشاركية، أو التوافقية، ونغلق الباب أمام الانتخابات نهائيا... ديمقراطية توافقية عندما يحصل الإسلاميون على الأغلبية، وديمقراطية أغلبية عندما يحصل على الأغلبية غيرهم.. ديمقراطية لا ينجح فيها الإسلاميون.. أو ديمقراطية بدونهم؟! إن من يبدأ حياته السياسية بالمجازر، لن ينهيها بالتعمير، ومن ينقلب على الشرعية برشوة، يمكنه التفريط في الوطن بمثلها. لذلك، كان التبرع بالدماء أشياء ثمينة لإنقاذ حياة الناس، وهي أثمن لحياة الأوطان.
إن تورط دول خليجية في انقلاب الجيش في مصر على رئيس منتخب، ليس تحالفا مع الكيان الصهيوني والاستخبارات الأمريكية، وإنما قطع لوشائج التعاطف مع السعودية والإمارات التي يدبر لهما ما يدبر من قبل الطرفين الصهيوني والأمريكي، وقد بدت واضحة حالة الانصياع غير المسبوق للأوامر الصهيوأمريكية؛ ومن ذلك جعل يومي الجمعة والسبت عطلة في السعودية بدل الخميس والجمعة في مقدمة لجعل العطلة يومي السبت والأحد، أما الإمارات فقد تحولت عاصمتها إلى (كباريه).
إذا نجح الانقلاب في مصر، فإن عصرا من الاستبداد والقمع والهمجية سيجتاح المنطقة ضد كل ما هو إسلامي، بشكل لم يسبق له مثيل سواء في دول الربيع العربي أو الخليج الذي بدأ يتحول إلى محرقة للإسلام والإسلاميين الناشطين، مما سيعيد معه عهود الاستبداد السابقة متسامحة جدا. أوقفوا المستهترين بالسلم الاجتماعي وبأرواح الناس، وبذل القليل يمكن أن يوقف خسارة الكثير إن بقي شيء يمكن خسرانه لا قدر الله.
مصر مستهدفة وليس الإخوان: إن مصر وتنمية مصر، وتقدم مصر، وريادة مصر، ومكانة مصر في الأمة هي المستهدفة من الانقلاب المشؤوم الذي قام به الجنرال السيسي، بأوامر من أسياده، وليس الرئيس المنتخب محمد مرسي، ولا جماعة الإخوان المسلمين. فقد تعرض الإخوان المسلمون طوال تاريخهم لمحن وملاحم وقدموا من الشهداء الكثير في مقدمتهم الشهيد حسن البنا، والشهيد عبد القادر عودة، والشهيد سيد قطب والشهيد كمال السنانيري، وقوافل شهداء الإخوان كثيرة منذ حرب 1948م. والإخوان يعرفون السجون ويعرفون المعتقلات وهم مستعدون لها وللشهادة. وقد استشهد منهم في أيام معدودة أكثر من 130 شهيدا وقدموا أكثر من ألف جريح، ولكن المستهدف هو مصر.
مصر مستهدفة في قرارها السيادي، فالكثير من المشاريع الاستراتيجية سواء في سيناء أو السويس وغيرها ستتوقف فورا، مثل مشروع السويس العالمي، ومشروع تنمية سيناء، ومشروع تصنيع السيارات. وكان مشروع السويس سينطلق يوم 6 يوليو، الذي سيدر على مصر مليارات من الدولارات سنويا. وكلفة مشروع تنمية سيناء 5 مليارات دولار، وبلغ إنتاج القمح 4,5 مليون طن مقابل 11 مليار جنيه للفلاح المصري. فقد أغضب مشروع السويس الإمارات، ومشروع سيناء الصهاينة المحتلين لفلسطين، ومشروع القمح أمريكا. في حين ستجوع مصر أكثر من خلال السد العظيم الذي تبنيه أثيوبيا لتعطيش مصر وخنقها.
ومصر مستهدفة في أرواح أبنائها حيث هناك نية لتصفيات جسدية بالجملة كمجزرة الحرس الرئاسي، وما يقال عن دبلجة أفلام تتهم المتظاهرين السلميين باستخدام العنف، أو وجود إرهابيين هاجموا الحرس الجمهوري، وتمرير المغالطات هذه كما كان في السابق للرأي العام.
ولا شك بأن الاجراءات التي تم اتخاذها حتى الآن تكشف عن مستقبل مظلم سواء على مستوى الحريات، أو مستقبل الإسلام والعمل الإسلامي في مصر، رغم الوضع الأمني المتوتر، فكيف تكون الأمور لو هدأت الأوضاع، فقد تم إغلاق الصحف، وحبس الإعلاميين، وإيقاف السياسيين وإهانتهم وتلفيق التهم لهم وتهديدهم. وقتلوا الناس (55 شهيدا وأكثر من 500 جريح) وهم يصلون وحاولوا التنصل من الجريمة وتبريرها بالكذب. وقاموا بانقلاب وسموه ثورة، وعينوا البرادعي وهو طرف سياسي في منصب نائب الرئيس، في حكومة يقولون عنها انتقالية، مما يعني أن ليل العسكر سيطول لا قدر الله في مصر. ومما يعني أن الانتخابات القادمة ستتزور لصالح أطراف بعينها من بينها البرادعي، بينما تقتضي النزاهة أن لا يكون أي طرف حزبي في حكومة انتقالية حتى لا تؤثر على نتائج الانتخابات.
الانقلاب معناه: وداعا لحرية التعبير، ووداعا للحريات السياسية، ووداعا للفصل بين السلطات، وللدستور الذي تم الانقلاب عليه رغم التصويت عليه بأغلبية كبيرة. وعندما يأتون برئيس وزراء يؤكد أن: "لا قدسية للأديان"؛ ندرك بالضبط ما يراد بمصر وما يراد لمصر.
إن المطلوب الآن لعودة الشرعية في مصر هو القيام بضغوط والضغوط الحقيقية والناجحة تكون في القاهرة وليست في باقي المحافظات، ففي القاهرة جميع وكالات الأنباء والإعلام والتصوير، وفيها السفارات الأجنبية، والمراكز التابعة، ومراكز الأحزاب الكبرى، والقيادات السياسية والعسكرية، والاقتصادية، وفيها ميادين التحرير ورابعة العدوية، والحرس الجمهوري والإذاعة والتلفزيون.
عبد الباقي خليفة - 20/9/1434 هـ